دراسات
إسلامية
الإعلام
الإسلامي ودوافع المسؤولية
(1/2)
بقلم : الأستاذ محمد خير رمضان يوسف
إن أهمّ مايتميز به رجل الإِعلام الإِسلامي هو
مسؤوليته عما يقدمه .. ليس أمام السلطات في الدنيا فقط .. فلربما افتعل أفانين
للتخلص منها ، أو التجأ إلى من يحميه خارج دائرة الحكومة ؛ لكن الخاصية الأساسية
فيه هي شعوره بأنه مسؤول أمام الله تعالى يوم القيامة فيما يقدمه من معلومات ونقد
وتحليلات، ويعلم أن الله مطلع على ضميره وخلجات نفسه ، وسيحاسبه على إفساده
وخيانته أشدّ الحساب .
إن الذي يريد منه الإِسلام هو الوازع الديني
، وخشية خالقه ، والخوف منه عزّ وجل . قال تعالى ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوْءٍ تَوَدُّ
لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَه أَمَدًا بَعِيْدًا﴾(1).
ويتمثّل الهدف من دراسة هذا الفصل في بيان مصدر الشعور بالمسؤولية ، أو الدافع الغيبي الذي يدفع رجل الإِعلام لتتّبع المنهج الإسلامي .. وليس الهدف تعداد المسؤولية الإِعلامية ؟ وما هي الأمور التي يجب على الإِعلامي أن يلتزم بها في داخله وعلى الساحة الإِعلامية ؛ ليؤدي رسالتَه من واقع مسؤوليته الدينية ؟
سيتوضَّح لنا كل هذا بإذن الله من خلال
مايلي:
أولاً
: الإِيمان بالغيب :
وصف الله – تعالى – المتقينَ في أول «سورة البقرة» بقوله : ﴿الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيْمُوْنَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُوْنَ . وَالَّذِيْنَ
يُؤْمِنُوْنَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ
هُمْ يُوْقِنُوْنَ﴾(2).
يقول
سيد قطب رحمه الله : الإِيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإِنسان ، فيتجاوز
مرتبة الحيوان الذي لايدرك إلا ما تدركه حواسه ، إلى مرتبة الإِنسان الذي يدرك أن
الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيّز الصغير المحدّد الذي تدركه الحواس . أو الأجهزة
التي هي امتداد للحواس – وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله
ولحقيقة وجوده الذاتي ، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود ، وفي إحساسه
بالكون وماوراء الكون من قدرة وتدبير . كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض ، فليس من يعيش في الحيّز الصغير
الذي تدركه بديهته وبصيرته ؛ ويتلقى إصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه ، ويشعر
أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود ، وأن
وراء الكون ظاهره وخافيه ، حقيقة أكبر من الكون ، هي التي صدر عنها ، واستمدّ من
وجودها وجوده .. حقيقة الذات الإِلهية التي لاتدركها الأبصار ولاتحيط بها العقول .
وعندئذ
تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدّد والتمزّق والانشغال بما لم تُخلق
له ، وما لم تُوهب القدرة للإحاطة به ، ومالا يجدي شيئًا أن تنفق فيه . إن الطاقة
الفكرية التي وهبها الإنسان ، وهبها؛ ليقوم بالخلافة في هذه الأرض ، فهي موكلة
بهذه الحياة الواقعة القريبة ، تنظر فيها ، وتتعمقها وتتقصاها ، وتعمل وتنتج ،
وتنمي هذه الحياة وتجملها ، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل
مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود ، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لاتحيط
به العقول ...
ثم
يقول :
لقد
كان الإيمان بالغيب هو مَفرَق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة . ولكن
جماعة الماديين في هذا الزمان ، كجماعة الماديين في كل زمان ، يريدون أن يعودوا
بالإنسان القهقري .. إلى عالم البهيمة الذي لاوجود فيه لغير المحسوس ! ويسمون هذا «تقدمية»
وهو النَكسَة التي وقى الله المؤمنين إياها ، فجعل صفتهم المميزة صفة: «الَّذِيْنَ
يُؤْمِنُوْنَ بِالْغَيْبِ»
والحمد لله على نعمائه ، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين(3).
والغيبُ
يتناول كل ما قاله الله – تعالى – وصح عن رسوله – ﷺ
– مما لايدركه الحس . وأركان الإيمان الأساسية كما بينها الرسول – ﷺ
–هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاءِ والقدر .
ثانيًا
: الجزاء في الإسلام :
نطاق
الجزاء في الإسلام واسع وشامل شمول
الإسلام لجميع شؤون الحياة ، ومن ثم فأَجزِية الإسلام تتعلّق بأمور العقيدة
والأخلاق والعبادات والمعاملات . فكل مخالفة لهذه الأمور لها جزاؤها في الآخرة ،
وقد يكون لها جزاء في الدنيا أيضًا .
والجزاء
في الدنيا لايمنع الجزاء في الآخرة عن المخالف العاصي إلا إذا اقترنت معصيته
بالتوبة النصوح . والتوبة النصوح تقوم على الندم على ما اقترفه الإنسان ، وعلى
العزم الأكيد على عدم العودة إلى هذه المخالفة ، وعلى التحلّل من حقوق الغير إذا
كانت معصية تتعلّق بهذه الحقوق .
وقد
ترتب على هذا الجزاء الأخروي خضوع المسلم لأحكام الشريعة خضوعًا اختياريًا في السر
والعلن خوفًا من عقاب الله ، وحتى لو استطاعت الإفلات من عقاب الدنيا ؛ لأن العقاب
الأخروي ينتظره ولا يستطيع الإفلات منه .. ولهذا إذا ارتكب المسلمُ جريمةً أو
معصيةً في غفلة من إيمانه طلب إقامة العقوبة عليه بمحض اختياره . فهذا «ماعزٌ»
اعترف أمام الرسول – ﷺ – بجريمة الزنى
وطلب إقامة الحدّ «العقوبة»
عليه . وهكذا تنزجر النفوس عن مخالفة القانون الإسلامي ، إما بدافع الاحترام له
والحياء من الله تعالى ، وإما بدافع الخوف من العقاب الآجل الذي ينتظر المخالفين
...
وفي
هذا وذاك أعظم ضمان لزجر النفوس عن المخالفة والعصيان(4).
ثالثًا
: الإيمان باليوم الآخر(5):
ليست
حياة الإِنسان هذه إلا مقدمة لحياته الآخرة ، فهي حياة طارئة مؤقتة وتلك حياة
خالدة سرمدية . وهذه ناقصة وتلك كاملة .. وفي ذلك اليوم سيُوزَن الخير والشر،
والبر والأثم ، والفضيلة والرذيلة ، والإيمان والكفر، والأخلاق والملكات . وستُقاس
فيه النيّات والإِرادات والعواطف والهواجس والأحاسيس وسائر أفعال القلوب .
لايُحاسَب فيه الإنسان على وزن الخبز الذي أطعمه أحدًا من الفقراء والمساكين ،
ولاعلى عدد الدراهم التي أعطاها أحدًا من السائلين والمحرومين ، وإنما يحاسب فيه
على النيّة التي حملتْه على هذا الكرم وسخاء ؛ لأن القانون فيه لايكون ماديًا ،
وإنما يكون معنويًا ، وفي ذلك يقول جل شأنه :
﴿وَنَضَعُ
المَوَازِيْنَ القسطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ
كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفىٰ بِنَا
حَاسِبِيْنَ﴾(6).
وفي
ذلك اليوم ستحدث للأفعال نتائجها الحقيقية المتفقة مع العقل والعدل ، ولاتجري فيه
القوانين المادية ولا الأسباب المادية كما هي تجري اليوم في نظامنا الحاضر. فمثلاً
: المال والجاه والحسب والنسب والكياسة والفطانة وسلاطة اللسان وكثرة الوسائل
المادية وقوة الحلفاء والأصدقاء والأقرباء وسعيهم وشفاعتهم .. كل هذه من الأسباب
التي تنقذ الإنسان في نظامنا الحاضر من نتائج كثير من أقواله وأفعاله ؛ ولكنها
ستفقد تأثيراتها في نظام الحياة الآخرة ، فلا يترتب فيه على كل فعل من أفعال
الإنسان ولا على كل قول من أقواله إلا النتيجة التي يجب أن تترتب عليه على مقتضي
من العقل والعدل والحق والصواب :
﴿وَاتَّقُوْا
يَوْماً لاَتَجْزِيْ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَّلاَيُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ
وَّلاَيُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَّلاَهُمْ يُنْصَرُوْنَ﴾(7).
﴿وَلَقَدْ
جِئْتُمُونَا فُرَادٰى كَمَا خَلَقْنَا كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَّتَرَكْتُمْ
مَاخَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُوْرِكُمْ وَمَا نَرٰى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ
الَّذِيْنَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيْكُمْ شُرَكَاءَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ
وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُوْنَ﴾(8).
رابعًا
: حاجة الإنسان إلى عقيدة اليوم الآخر :
معنى
إيمان المرء بهذه العقيدة أن لايرى نفسه في هذه الدنيا كائنًا حرًا طليقًا ، ولكن
كائنًا ذا تبعةومسؤولية ، ولايؤدي جملة أعماله وتصرفاته إلا على شعور تام من أن
عليه تبعة كل حركة من حركاته ، وأنه مسؤول عنها في حياته المُقبِلة ، وأن سعادته
أو شقاءه في مستقبله لايتوقّف إلا على أعماله الصالحة أو السيئة في حاضره . ومعنى
عدم إيمانه بها أن يرى نفسه كائنًا حرًا طليقًا لاتبعة عليه ولامسؤولية ، ولايؤدي
جملة أعماله ولايرتب جملة تصرفاته في هذه الحياة إلا على الظن بأنه ليس مسؤولاً
عنها ، وأنه لاتترتب عليها نتيجة حسنة أو سيئة في حياة أخرى بعد هذه الحياة .
ومن
التأثير اللازم لخلو ذهن الإنسان من عقيدة اليوم الآخر أو عدم إيمانه بها أنه
لايطمح ببصره إلا إلى النتائج المترتّبة على أعماله في هذه الدنيا ولايحكم على شيء
بالمنفعة أو المضرّة إلا باعتبار هذه النتائج فحسب . إنه يحترز عن أكل السمّ
ولايضع يده في النار لماذا ؟؛ لأنه يعلم أنه لابد أن يذوق وبال هذَين الفعلَين
ونتائجهما السيئة في حياته هذه . وأما الظلم والكذب والخيانة والغدر والغيبة
والزنا وما إليها من الأفعال التي لاتظهر نتائجها السيئة في هذه الحياة كاملة ؛
فإنما يحترز عنها على قدر مايخاف من ظهور نتائجها السيئة في حياته هذه ، ولايتردد
في اقترافها حينما لايرى نتيجة سيئة تترتب عليها أو يرجو أن ينال بها منفعة مادية
في هذه الدنيا نفسها .
أما
الذي يقول بعقيدة اليوم الآخر، فلا يطمح ببصره إلى النتائج العاجلة المترتّبة على
أعماله في هذه الحياة وحسب ، وإنما يطمح ببصره إلى نتائجها الحقيقية المتربة عليها
في حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيا ، ولايحكم على فعل بالمنفعة أو المضرّة إلا
على اعتبار تلك النتائج ، فهو كما يكون على يقين من أن السم مهلك والنار مؤلمة ،
كذلك يكون على يقين من أن الظلم والكذب والغدر والخيانة والزنا كلها أفعال مهلكة
مؤلمة ، وهو كما يعتقد أن الخبز والماء نافعان ، كذلك يعتقد أن العدل والأمانة
نافعان ، ويقول بنتيجة معينة يقينية لكل فعل من أفعاله ولو لم تظهر في هذه الحياة
أصلاً...(9)
خامسًا
: آثار الإيمان باليوم الآخر إعلاميًا وخلقيًا(10):
وهذا
البعد الغيبي في الطرح الإعلامي مما يميز الإعلام الإسلامي عن غيره من نظم الإعلام
المطبّقة في واقع الحياة اليوم . فَبِه تتحقق الموازنة بين ما هو مادي وماهو معنوي
. وبه تتحقق أعلى درجات الإثارة النفسيّة لما يبعث في النفس من طموح ومايثير فيها
من خوف ،ومايقدمه من سعة في مدلول معنى الحياة .
والإخبار
عن الغيب في المستقبل هنا ضرب من الإعلام التحذيري والتبشيري معًا ، يتيح للناس
فرصة الإعداد لمواجهة احتمالات المستقبل بما يكفل لهم سلامة المواقف ويحقق لهم
الطمأنينة ويحفزهم على العمل المثمر، وبذلك ترقي الأخلاق وتزكو الحياة ، ويحقق
الإخبار غاياته في بناء الحياة الإنسانية الكريمة في رشد ونماء ...
والإيمان
باليوم الآخر على الوجه الصحيح مفض إلى سلامة النفس ورشد التصور واستقامة السلوك
ورقي الحياة ، وهو ضمانة ليقظة القلب وعلو الهمة واستعلاء النفس وترفعها في مراقبة
تورث الإحسان وتحقق إنسانية الإنسان ؛ ولتصبح أهداف الحياة أعلى من ضروراتها ،
تطلقًا إلى التمايز الحق بين الناس : ﴿وَيَوْمَ تَقُوْمُ السَّاعَةُ
يَوْمَئِذٍ يَّتَفَرَّقُوْنَ . فَأَمَّا الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا
الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِيْ رَوْضَةٍ يُّحْبَرُوْنَ . وَأَمَّا الَّذِيْنَ
كَفَرُوْا وَكَذَّبُوْا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلـٰـئِكَ فِي
العَذَابِ مُحْضَرُوْنَ﴾(11). وقال عز من قائل : ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّيْ
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ . مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَه وَذٰلِكَ
الفَوْزُ المُبِيْنَ﴾(12).
الإخبار في هذا النص مسوق لتأكيد تحقيق وقوع
يوم الجزاء ، وهو في الوقت نفسه للإنذار والتحذير من الاستمرار في الكفر ؛ بل هو
غاية التحذير ؛ لأن خوف الرسول – ﷺ – بهذه الصورة يحمل غيره على الفزع . وهو كذلك دعوة غير
مباشرة إلى الاقتداء به – ﷺ – ممايعني علو شأن الإعلام الذي يتوسّل إلى غاياته في
أساليب ذكية تشعر المتلقي بقدرته على الفهم وعلو ثقة المرسل به ...
والخوف الذي أمر الرسول – ﷺ – أن يعلنه للناس في هذا النص بهذا الجلاء والوضوح تأكيدًا
لوقوع يوم الجزاء، يشفع ببيان تأكيدي تهديدي آخر في
سياق الإخبار عن يوم القيامة هو قوله تعالى: ﴿ثـُمَّ رُدُّوْا إِلىٰ
اللهِ مَوْلاَهُمْ الحَقُّ أَلاَ لَهُ الحُكْمُ وَهُو أَسْرَعُ الحَاسِبِيْنَ﴾(13).
وهو
نص ظاهر الدلالة على أن المراد الإعلام بوقوع يوم القيامة تحذيرًا للناس وتنبيهًا
لهم من مَغَبَّة الوقوع فيما يؤدي بهم إلى الهلاك يومئذ . والذين يعرضون عن هذا
البلاغ على الرغم من وضوحه وجلائه وعلى الرغم من ضخامة الحقائق المعروضة من خلاله
يستحقون الإهمال والإعراض: ﴿وَذَرِ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوْا دِيْنَهُمْ
لَعِبًا وَّلَهْوًا وَّغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُنْيَا
وَذَكِّرْ بِه أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُوْنِ
اللهِ وَلِيٌّ وَّلاَشَفِيْعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلِّ عدلٍ لاَيُؤْخَذُ مِنْهَا
أُوْلـٰـئِكَ الَّذِيْنَ أُبْسِلُوْا بِمَا كَسَبُوْا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ
حَمِيْمٍ وَّعَذَابٌ أَلِيْمٌ بِمَا كَانُوْا يَكْفُرُوْنَ﴾(14).
ففي
النص الكريم أمر بالإعراض عن المكذِّبين مع التذكير بالقرآن والتحذير من نقمة الله
وعذابه يوم القيامة ، والأمر بتركهم إما لتقليل من شأنهم وتهديدهم أو ترك معاشرتهم
وملاطفتهم ...
سادسًا
: خشية اللّه في السر والعلن :
خشية
الله تعالى والخوف من عقابه ووعيده إحدى الدوافع الرئيسية للجهر بالحق وعدم اتباع
الباطل .. وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تذكِّر المؤمن بما يؤول إليه أمره
وما سيُحاسَب عليه في الصغيرة والكبيرة ، وأن الأفضل له أن يزن أعماله قبل أن
تُوزَن ويفاجأ بما لم يقدر مسؤوليته فيما فعله . وقد تنوع الأسلوب البلاغي
والبياني والنفسي في هذه الآيات في المجتمع ومركز كل فرد ونشاطه الاجتماعي ...
(أ)
نداء الإيمان :
والمقصود
من ذكر هذه الفقرة أن النداء الموجَّه من الله تعالى هو لمن يؤمنون بالغيب ،
ويتيقّنون أخباره الواردة في القرآن الكريم والحديث الصحيح، ويتصوَّرون اليوم
الآخر كما أخبر به . أما من لايؤمن بالغيب فلا يوجَّه إليه مثل هذا .. إذ كيف يقال
لمن لايؤمن بالله واليوم الآخر إنك إذا لم تعدل ولم تتق الله في نفسك وأهلك
ومجتمعك فستنال عذابًا أليمًا وستحرم من النعيم الخالد ؟ ... ومن هنا نستنتج أن
خشية الله محصورة في المؤمنين ؛ لأنهم هم الذين يؤمنون بالغيب ، أما غير المؤمنين
فلا يتصور منهم الخشية ، ومن ثم فلا يتصور في حقهم الدافع الحقيقي لاعتبار
المسؤولية كما هو بيت القصيد في حديثنا هذا ! أي أنه لايعتمد عليهم رجالاً مخلصين
في أعمالهم لبناء الوطن ، والمجتمع المسلم، وتربية أجياله ..
ولنسرد
بعض الآيات الكريمة التي تبين أن خشية الله خي فيمن يؤمنون بالغيب :
﴿إِنَّمَا
تُنْذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمـٰـنَ بِالغَيْبِ﴾
(يس:11).
﴿الَّذِيْنَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَاعَةِ مُشْفِقُوْنَ﴾
(الأنبياء:49).
﴿قُلْ
إِنّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّيْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ﴾
(الأنعام:15).
﴿وَأَنْذِرْ
بِه الَّذِيْنَ يَخَافُوْنَ أَنْ يُحْشَرُوْا إِلىٰ رَبِّهِمْ﴾
(الأنعام:51) .
﴿وَالَّذِيْنَ يَصِلُوْنَ مَا أَمَرَ
اللهُ بِه أَنْ يُوْصَلَ وَيَخْشَونَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُوْنَ سُوْءَ الحِسَابِ﴾(الرعد:21).
(ب)
الترغيب والترهيب :
الخشية
من الله تعالى تولِّد في نفس المرء الرغبةَ في رضائه وطلب ثوابه ، وهو اعتراف منه
بضعفه أمام خالقه وتسليم بأمره وتنفيذ لأوامره . كما تبعث في نفسه الرهبة من اليوم
الأكبر.. حيث سيجازي كل بما عمل وقدم .. فلا ينفع إلا العمل الصالح . قال تعالى :
﴿وَيَدْعُوْنَنَا
رَغَبًا وَّرَهَبًا وَّكَانُوْا لَنَا خَاشِعِيْنَ﴾ (الأنبياء: 90) .
﴿يَبْتَغُوْنَ
إِلىٰ رَبِّهِمْ الوَسِيْلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَه
وَيَخَافُوْنَ عَذَابَه﴾ (الإسراء:57) .
﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ
الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِيْ وَخَافَ وَعِيْد﴾
(إبراهيم:14) .
(ج)
التخويف بالعقوبة الدنيوية :
وهو
نوع من أنواع الوعيد . وفيه تلميح إلى أن النفس الإنسانية تختلف من شخص إلى آخر،
ومن جيل إلى جيل، ومن بيئة إلى أخرى . ولكل فئة أو طبقة أساليب خاصة للردع .. فهذا
يرتدع بالتخويف من النار ، وآخر بعقوبة عاجلة ، أما بمرض أو فقر أو ابتلاء بالأمل
أو الجاه ..
والمهم
في القول هنا أن الذي يأخذ بهذه العبر ويستفيد من هذه الدروس ويتّعظ بهذه الأخبار،
هو المؤمن الحقيقي .. الذي عندما يسمع مثل هذا الخبر يرى وكأن الذنب مثل جبل يريد
أن يقع عليه.. فيخشى الله .. ويرتدع .
قال
عز وجل :
﴿وَقَالَ
الَّذِيْ آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمَ الأَحْزَابِ .
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوْحٍ وَّعَادٍ وَّثـَمُوْدَ وَالَّذِيْنَ مِنْ بَعْدِهِمْ
وَمَا اللهُ يُرِيْدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾ (غافر:30-31) .
﴿فَلْيَحْذَرِ
الَّذِيْنَ يُخَالِفُوْنَ عَنْ أَمْرِه أَنْ تُصِيْبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ
يُصِيْبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ﴾ (النور:63) .
﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا اتَّقُوْا اللهَ وَذَرُوْا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوْا فَأْذَنُوْا بِحَرْبٍ مِّنَ
اللهِ وَرَسُوْلِه ...﴾ (البقرة: 278-279) .
﴿إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِيْنَ يُحَارِبُوْنَ اللهَ وَرَسُوْله وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَادًا أَن يُقَتِّلُوْا أَوْ يُصَلِّبُوْا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيْهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ
خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيْمٌ﴾
(المائدة:33) .
* * *
الهوامش :
(1) سورة آل عمران ، الآية:30 .
(2) سورة البقرة ، الآيتان : 3-4 .
(3) في ظلال القرآن . سيد قطب ، ج:1، ء:39-40 .
(4) أصول الدعوة . عبد الكريم زيدان ، ص:69-70
(باختصار) .
(5) أنظر هذه الفقرة – بتفصيل أكثر – في كتاب :
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. أبو الأعلى المودودي – د. م:
دار الخلافة ؛ الإسكندرية : توزيع دار الدعوة ، د. ت (الحضارة الإسلامية .. أسسها
ومبادئها) ص:237 ، 260-262 .
(6) سورة الأنبياء ، الآية :47 .
(7) سورة البقرة ، الآية :48 .
(8) سورة الأنعام ، الآية : 94 .
(9) المصدر السابق (باختصار) ص: 267-269 .
(10) أنظر ما ورد تحت هذا العنوان باختصار في كتاب
: أصول الإعلام الإسلامي وأسسه : دراسة تحليلية لنصوص الأخبار في سورة الأنعام .
سيد محمد ساداتي الشنقيطي ، ج:2 ، ص: 80-81 ، 22-125 وأنظر بعض المصادر التي اعتمد
عليها هناك .
(11) سورة الروم ، الآيات :14-16 .
(12) سورة الأنعام ، الآيتان : 15-16 .
(13) سورة الأنعام ، الآية : 62 .
(14) سورة الأنعام ، الآية : 70 .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1427هـ = يناير
2007م ، العـدد : 12 ، السنـة : 30.